حَدَثَ في مترو القاهرة

كالعادة أُفضّل الذّهاب لعملي في الصّباح الباكر حتى أقي نفسي زحام الطّريق وحرارة الشّمس، أسير في شوارع القاهرة قبل أن يشقّ سكونها ضجيج المارّة، أسير في الطّريق وأنا أستمتع بنسيم الصّباح وكأنّه إكسير الحيويّة الّذي يملأني بالنّشاط لأبذل أفضل ما بوسعي في يوم عمل جديد! أسير وأنا أشعر بالفخر لكوني امرأةً مصريّة، فالمرأة المصريّة رغم مآخذي على بعض قناعاتها الّتي تكدّر صفو حياتها وتُصعِّب عليها الكثير من الأمور، إلا أنّها مثال رائع في العطاء والتّفاني والجِدّيّة وحسن تدبير المعيشة.
ومساعدة منها، تتّخذ الحكومة المصريّة بعض الإجراءات أو القوانين لتسهيل حياة المرأة. واحدة من هذه القوانين تخصّ استخدامها للمواصلات العامّة، وذلك بتخصيص مقاعد للسّيّدات بسيّارات النّقل العام أو عربات للسّيّدات بالمترو حمايةً لها من التّحرّش أو سوء معاملة البعض، شكرًا للحكومة المصريّة، لكنّ ذلك ليس حلًّا!
نعم ليس حلًّا، لأنّه لن يحلّ مشاكل المرأة الكثيرة النّاتجة من أفكار عتيقة وعفنة مترسّخة في المجتمع منذ أزمنة بعيدة، بل يزيد الوضع مأساويّةً لأنّه يعمّق هذه الأفكار ويظهر قبح تأثيرها أكثر. واحدة من هذه الافكار هي فكرة التّمييز بين الجنسين وترسيخ فكرة أنّ المرأة مخلوق ضعيف يجب حمايته من الرّجال وعزله بعيدًا قدر المستطاع! ليس هذا فقط، بل أيضا ترسيخ فكرة أنّ استخدام المرأة للمواصلات غير المخصّصة للسيّدات "فسق وفجور"!

إليك عزيزي القارئ الموقف التّالي لتدرك معي مدى بشاعة ما نحن عليه!
كنت في إحدى محطّات مترو القاهرة وفجأةً عَلَت الأصوات واشتدّ الجدال لقيام شرطة المترو بإلقاء القبض على رجل حاول أن يستقلّ عربة السيّدات ومحاولة إلزامه بدفع غرامة ماليّة، فما كان من الرّجل إلا أن دافع عن نفسه بالباطل قائلًا: "وفيها ايه! ما الستات بيجوا يركبوا العربيات بتاعتنا ويتزنقوا فينا"!! حقيقةً، لم يدهشني أو يعنيني رأيه كثيرًا، لكن ما أدهشني حقَّا ووقع على أسماعي كالصّاعقة هو ردّ رجل الشّرطة: "اللي عايزة تتزنق تتزنق براحتها"!!!! حينها لم أعد احتمل السكوت، وأسرعت لرجل الشرطة لأعلن تحفّظي على هذا الرّدّ لِما يحمله من إهانة في حقّ المرأة المصريّة وبخاصّة المرأة العاملة الّتي تتحمّل عناء الطّريق في مواصلاتٍ عامّة لا تحترم حقّها الكامل في معاملة متحضّرة كريمة، سألت الشّرطيّ: "هل يعني ردّك أنّ كلّ من تستخدم العربات غير المخصّصة للسيّدات، هي إمرأة غير شريفة؟!"

كيف لشرطيٍّ أن يفكّر بهذا المنطق المريض؟! بدلًا من أن يتحدّث بلغة القانون كجهة تنفيذيّة له ويصّرح بأنّ المرأة لا تتعدّى هذا القانون طالما لا يحظر عليها أن تستقلّ أيّة عربة من عربات المترو جميعها، ويواجه هذا الرّجل بتعدّيه على القانون، تراه يؤكّد على فكرته الرّجعيّة المُهينة للمرأة!!!

مشكلة مجتمعنا العربيّ كلّه تكمن في فساد أفكارنا الّتي انحرفت بعيدًا عن المنطق الإلهيّ الحقّ، تلك الأفكار تستمدّ قوّتها من ثقافة شوّهت صورة المرأة وجعلت منها مواطنًا درجة ثانية وُجِد في الحياة فقط لخدمة مواطن الدّرجة الأولى "الرجل"، يسهر حارسًا لراحة باله وإشباع رغباته، غير مزاحمٍ له في ترقية عمل، يتردّد أن يعلن التّفوّق عليه في علم، يستحي مشاركته القيادة واتّخاذ القرار حتى لا يُتّهم بالجبروت والفجور!!! تلك هي ثقافتنا العربيّة الفاسدة، وإن اختلفت نسبة هذا الفساد من بلد عربيّ لآخر، ومن مجتمع لآخر داخل البلد الواحد، لكن تبقى نفس الثّقافة السّائدة بحاجة لأن تُجتثّ من جذورها حتى تنال المرأة العربيّة حقوقها المسلوبة وتنعم بكرامة غير مجروحة.

الكاتبة: مرثا بشارة
المصدر: دنيا الوطن