التديّن الشّكلي والفساد الأخلاقي

العنوان: التديّن الشّكلي والفساد الأخلاقي
الكاتب: استشاري الطّب النفسي الدكتور ماهر صموئيل
الكلّ قد أجمع على أن شعبنا هو أعرق وأكثر شعوب الأرض تديّنًا، ماضينا يشهد عن هذا، وتكفينا شهادة جيمس هنري بريستد في كتابه الشهير “فجر الضّمير”. وحاضرنا يؤكّد هذا، بل ويعلن أنّ جيلنا الحالي، بكل طوائفه، يشهد صحوة دينيّة ضخمة، لم يعشها لا أباؤنا ولا أجدادنا، على الرّغم من تديّنهم العميق. ويكفي للتّدليل عليها نظرة سريعة لمظهرنا ولغتنا وأنشطتنا ورنّات هواتفنا ووسائل إعلامنا بل ولأي شيء في تفاصيل يومنا. كما أن معهد جالوب لاستطلاعات الرأي قد حسم المسألة، عندما أخبرنا أنّنا الشعب رقم واحد على مستوى العالم في التديّن بنسبة ١٠٠٪. إذًا بريستد في الماضي وجالوب في الحاضر يؤكّدان بقوّة على تديّننا.
ومن الجانب الآخر، لن يختلف اثنان على أننا نعاني اليوم تدهورًا أخلاقيًّا مرعبًا لم نشهد له مثيلاً! تدهورًا طال كل أوجه حياتنا ومعاملاتنا، وضرب بأطنابه في كلّ دوائرنا. فصرنا أيضًا الشّعب رقم واحد بين كل شعوب الأرض في البحث عن الموادّ الإباحيّة على مؤشر جوجل، والشعب رقم واحد في الرّشوة! وتشهد شوارعنا ألف جريمة اغتصاب كل أسبوع (ما يبلغ عنه) وتشهد بيوتنا حالة طلاق كل ٦ دقائق ناهيك عن حوادث القتل المخزية والتي فيها نرى ليس فقط إهدار قيمة الحياة بل ودوس بالأقدام لكل معنى وخلق نبيل. بالإضافة إلى العذاب الذي تعيشه يوميا نساؤنا وفتياتنا في وسائل المواصلات من التحرش، من الرّجال الكبار أكثر من الشّباب الصّغار. والعنف والمخدرات والبذاءات التي تنهال من وسائل الإعلام.
وهكذا، نجد أنفسنا أمام تناقض محيّر يلزمنا أن نجيب عن سؤال هام: كيف لم يهذّب تديّننا أخلاقنا؟ بل وكيف أن صحوتنا الدّينية الحاليّة لم ترتقِ بنا، بل ولا حتى استطاعت أن تحافظ لنا على موروثنا الأخلاقي الراقي، والذي عاش به؛ لا أقول أجدادنا في الماضي البعيد، بل أباؤنا في الماضي القريب؟
وبمجرد أن كَشَفَ معهد جالوب عن دراسته هذه التي أشرت إليها، أسرعت بعض البرامج الحواريّة لاستضافة علماء وساسة وأدباء وطرحت عليهم هذا السؤال المنطقي جدًّا. واختلفت إجاباتهم فمنهم من أرجعها لزيادة عدد السكان! ومنهم من قال أن سببها هو الازدحام الشديد! بل وسمّاها ثقافة الزحمة! ومنهم من أرجعها لنكسة ٦٧ والتي مضى عليها أكثر من أربعين عام!! ومع احترامي الكبير لأشخاصهم وقيمتهم العلمية والأدبية، أقول إنّه بالإضافة لغرابة الردود، وعجزها التام عن تفسير الفساد الأخلاقي، من وجهة نظري، فإنها لم تجب عن السؤال المطروح والذي فرضته الدراسة ألا وهو لماذا لم يهذّب تديّننا أخلاقنا.
ولا أدّعي أني في هذا المقال أقدّم الإجابة، لكنّه مجرّد طرح أطرحه للتّفكير وقد أخطئ وقد أصيب ، فأقول إن صحوتنا الدّينيّة الحاليّة هي في الحقيقة مجرّد تديّن شكلي أجوف وليست تديّنًا حقيقيًّا. تديّن لم يقترب إطلاقًا من جوهرنا وأرواحنا، بينما يعمل بشدّة في مظهرنا وكلامنا. هذا التّديّن الشّكلي هو علّة الفساد الأخلاقي وليس بنقيضه! وعليه فنحن لسنا أمام تناقض كما يظنّ البعض، بل نحن أمام حقيقة منطقيّة تضمّنت السّبب والنّتيجة!. وهذا ما سأحاول توضيحه في هذا المقال، كيف أنّ التّديّن الشّكلي هو علّة الفساد الأخلاقي. وليس ذلك فقط بل إنّه يؤدّي أيضًا إلى تشوّهات نفسيّة وعيوب في الشّخصيّة يصعب علاجها.
التديّن الحقيقي يربط النفس بالقدّوس، وليس بمجرد المقدّسات. يربطها بالله عز وجل فتستشعر النّفس قيمتها الثّمينة لديه، وقد صار لها حق الاقتراب منه والتّواصل معه.! وفي نفس الوقت يملؤها بالشعور بعجزها وضآلتها إذ ترى المحدود في حضرة اللامحدود والضّعيف في حضرة القدير. هذا الارتباط الروحي الحي يخلق في النفس مزيجًا بديعًا من الشعور بالكرامة والرفعة دون أدنى كبرياء، وشعورا عميقا بالتّواضع والمحدوديّة دون أدنى شعور بالنّقص أو الخنوع. هذا المزيج البديع يملأ النفس سلامًا حقيقيًّا، ويشفيها من توتّرها مهما كانت ضغوطها. هذا التديّن يجمّل الشّخصيّة ويرقّقها إذ يجعلها متعفّفة عن الصّغائر لشعورها بكرامتها، ومقدّرة للآخر لشعورها بصغرها. إنه يجعل النّفس تَمْثُلُ بفرح بين يديْ القدّوس الحقّ، فتنهل من رحمته حتى ترتوي، وتخرج لتسكبه لطفًا وخيرًا ورحمة على الآخرين. ويجعلها تستنير بكلّ ما هو صادق وحقيقي فتخرج رافضة كل زيف وكذب في نفسها قبل الآخرين. ومن هنا ينشأ كل خُلُق جميل.
ولا شكّ أنّ العلاقة بالقدّوس تستلزم العلاقة بالمقدّسات بمختلف صورها كفرائض أو ممارسات، لكن تبقى المقدسات دائمًا مجرّد وسيلة وليست بديلاً للغرض الأسمى على الإطلاق.
أما التديّن الشّكلي الأجوف فهو يربط النّفس فقط بالمقدّسات، ويلصقها بها دون أدنى ارتباط بالحي القيوم. هو يحصر النفس في ذاتها لتتضخّم بدلا من أن تتضاءل، وتنتفخ بدلاً من أن تتواضع. إنه يجعلها تسعد فقط بالرضى عن نفسها لأنها أدّت المفروض عليها، بدلاً من أن تسعد بإسعاد مَن حولها. ومع الالتزام في الممارسة والمزايدة على الآخرين للحصول على قدر أكبر من إشباع الذّات وتقدير المجتمع، تصل النفس لحالة من التّسمّم الديني الّذي يغذي بشدة نوازعها الشّرّيرة في شهوة الشعور بالأفضليّة على الآخرين واستذنابهم وإدانتهم لكونهم دينيًّا أقل منها أو مختلفين عنها. أما الأسوأ فهو أنه يعميها عن رؤية أخطائها، أو تراها وتبرّرها! أو تراها ولا تبرّرها دون أن تشعر بأي وخزة ضمير من جهتها، إذ ترى أنها قد سبقت ودفعت من الحسنات ما سيمحو لها السيّئات! وبالتالي فعلى مستوى الوعي أو اللاوعي تعطي لنفسها الحق في أن تفعل الشر طالما أنها، ولله الحمد، ملتزمة ومستمرة في ممارسة ما سيمحو لها كل ذنب. وهكذا يكون قد تمّ تعطيل عمل أعظم رادع أخلاقي ألا وهو الضّمير. ومن هنا ينشأ كل خُلُق رديء.